دكالة 24:
ازدانت الخزانة التاريخية الوطنية بمؤلف جديد تحت عنوان: “أسرة أحشوش الأساويين ووثائقهم”، للدكتور سعيد عدي، وهو جزء أول ضمن سلسلة “بيوتات ووثائق أساوية”. تعنى هذه السلسلة بتقديم وتخريج الوثائق التاريخية المحلية لمنطقة أسا بمختلف أنواعها؛ المخطوطة، المرقونة المصورة، والشفاهية، وتسبر أغوار تاريخ منطقة أسا على مدى ثلاثة قرون من الزمن، في علاقتة بمجال الصحراء المغربية، الذي شكلت أسا إحدى أهم حواضره التاريخية القديمة، حيث عرفت تعميرا بشريا مبكرا يعود إلى ألاف السنين.
يقع الكتاب في 246 صفحة من القطع المتوسط، ويتألف من 10 أقسام ضمت في مجملها 124 وثيقة محلية معظمها من خزانات أسرة أحشوش، فيما جزء يسير منها يخص خزانات محلية أخرى، وذلك من أجل إعطاء نظرة شمولية حول محتويات أرشيفات وخزائن الوثائق التاريخية لبعض لأسر العريقة بمنطقة أسا، وتتوزع هذه الوثائق ما بين الأوفاق القبلية، والمراسلات الشخصية، والضرائب، والهبات والتمليك والتحبيس والرهن والبيع والشراء، والنوازل الفقهية والزواج والطلاق.. وغيرها من الوثائق التي تمكن الباحثين في التاريخ من الاطلاع بشكل موسع على مكامن قوة الوثيقة المحلية وحجيتها من أجل كتابة تاريخية رصينة حول الصحراء، بعدما تعذر على فئات من جمهور الباحثين الوصول إلى تلك الوثائق واستنطاقها بشكل سليم، حسب المنجز العلمي الحالي في هذا الصدد.
بالموازاة مع تقديم الوثائق وتحقيقها؛ اهتم الكتاب بتوثيق الشهادات الشفاهية لمعاصرين لبعض الأحداث أو مشاركين فيها.
فيما يلي مقتطف من حوار أجراه الباحث مع أحد شيخ منطقة أسا وهو السيد الحسين بن عبد الجليل بن الحسين بن عبد الله المزداد بأسا سنة 1920م حسب وثائقه الإدارية، وقبل هذا التاريخ بست سنوات حسب إفادته، وقال:
“توفي والدي أسبوعا بعد احتلال آسا سنة 1934م ففي ذلك اليوم ألم به غضب وحزن شديدين لما كان عليه الحال من دخول قوات فرنسا إلى المنطقة والسيطرة عليها، وما لبث أن ساءت حالته وزاد سقمه، فلزم الفراش أسبوعا، وتوفي صبيحة الجمعة الموالي رحمه الله.
شكل احتلال أسا حدثا راسخا في الذاكرة، ففي مساء ذلك اليوم لاحت في زرقة سماء آسا مروحية طال ترددها جيئة وذهابا، وخلف ذلك نوعا من الارتياب في أمرها قبل أن يأتي الخبر اليقين؛ بأن القوات الفرنسية على مشارف المنطقة زاحفة إليها، كان للخبر وقع على السير العادي للحياة داخل القصر في إداومليل وإداونكيت، كان الناس في ذهول وفزع مجتمعين زُمَرا يتقصون صحة الخبر، وما يزالون على ذلك الحال حتى ظهرت طلائع القوات الفرنسية من شرق المنطقة، وهي آخذة في التقدم لتطويق بعض أبواب القصر ومقر الزاوية.
لقد كان يوما مشهودا وجلت فيه قلوب الناس، وشخصت أبصارهم وأدمعت أعينهم، وقد لزم البعض المساجد ثلاثة أيام تباعا في تضرع إلى الله بالدعاء، وتلاوة القرآن، وهمّ آخرون إلى إخفاء أموالهم، بينهما فكر البعض في وضع حد لحياتهم مثل المرحوم سي براهيم بن حماد بن عبد الدائم حين سلم خنجره لأحدهم طالبا منه قتله لكي يخرج من هذا الواقع المزعج، فيما استعد الباقون للمواجهة، وقد جهزوا ما بحوزتهم من بنادق، واجتمع ليلته حشد من الناس يبحثون سبل النجاة، واختلفت الآراء بين داع للمقاومة، وبين معتزم مغادرة المنطقة والنجاة بالمال والولد، وفي غمرة هذا النقاش جاء الرأي السديد من المرحوم “أمحمد لمصيبان” الذي أكد أمام حشد غفير أن فرنسا بسطت نفوذها على كل المناطق المجاورة، ولا مفر من التعامل مع الواقع كما هو، إما المقاومة أو الاستسلام. لقد كان كلامه مقنعا، وسبق لهذا الرجل أن أظهر بطولة وشهامة فعند دخول تلك القوات، أخذ بندقيته وخرج لمواجتها وكاد يسقط إحدى الحوامات، فتم أسره ومن معه، ومكثوا في السجن ما شاء الله أن يمكثوا، وذاقوا صنوف التعذيب، رحمهم الله جميعا.
في اليوم الموالي قدم وفد فرنسي رفيع خصص له استقبال على المشارف الشرقية للمنطقة وفرض على السكان الحضور وتقديم بعض الماشية إطعاما للجيش والضيوف الذين قدموا من أجل تنصيب القبطان “دوفيرست De Furst” حاكما للشؤون الأهلية ورفع العلم الفرنسي، وبعد أيام من استتباب الأمر لفرنسا غادرت قواتها الحربية، وبقيت بعض الكتائب العسكرية تحت إمرة الإدارة.
حيثما وجد الاستعمار، وجدت مقاومته، وفي ظل الفراغ الذي خلفه غياب السلطة العرفية، وظهور أخرى مخزنية، لم يكن حولها الاجماع مكتملا؛ فقد شكلت السلطة الدينية إطارا مؤثرا داخل المجتمع الأسوي، ولم تقتصر أدوار الفقهاء على الجانب الشرعي؛ انما تعدته الى التأطير السياسي، وتوجيه الناس وتأليبهم ضد الاستعمار، وقد عرفت المنطقة تنظيم المقاومة في وقت مبكر أسهم فيها الرجال والنساء على حد السواء كل من موقعه، وحسب إمكاناته، وتم تأسيس خلية سُمّيت ب أيت الوطن”.
استمر المستجوب في سرد حدود ذاكرته حول مقاومة قبائل أيتوسى بمنطقة أسا، وختم حواره بإسهاماته الشخصية في النضال الوطني مع ظهور جيش التحرير قائلا:
“عندما جاءت قوات جيش التحرير الى المنطقة؛ شكّل منزلنا المسمى الدار الكبيرة مقرا لهم بالإضافة إلى مقر زاوية أسا، وكان القائد محمد بن حمو يتردد على منزلنا للراحة أو كلما جاء لمراقبة أداء الأفراد المرابطين ببرج إحشاش وما إليه. كنت أنا مكلفا بتموين 12 فردا؛ أقوم بتأمين الوجبات الأساسية لهم كل يوم، وكان القائد يفرض عليهم نظام التناوب عند كل وجبة، حتى لا تبقى مواقع الحراسة شاغرة لأي سبب من الأسباب.
باشر الجيش عمله في أسا باعتقال كل من ثبت تعامله مع الفرنسيين، وتم تغريم البعض، أما الذين تم حبسهم فقد تدخل “الفقيه السي حيمود” لدى قيادة جيش التحرير من أجل إطلاق سراحهم. وقدمت منطقتنا الكثير من الشهداء في سبيل تحرير الوطن، وقدمت المزيد أثناء حرب الصحراء.
سعيد عدي، بيوتات ووثائق أساوية، ج1؛ أسرة أحشوش الأساويين ووثائقهم، منشورات مركز الصحراء للأرشيف والبحث والتوثيق ومؤسسة دار الأمان، ط.1، م.الأمنية، الرباط، 2020م، صص. 37-38.
المصدر : https://www.doukkala24.com/?p=4023