دكالة 24:بلغيتي أسماء
طالبة باحثة بسلك الدكتوراه
تعتبر الرواية في عصرنا الحالي من أكثر الأنواع الأدبية مقروئية، وذلك راجع لارتباطها الشديد بالحياة الإنسانية، وقدرتها اللامحدودة على تقديم الأحداث، وتمثيل المرجعيات والإيديولوجيات، بإفساحها المجال لجميع وجهات النظر للتعبير عن نفسها بكل حرية من خلال دمقرطة الحكي.
والرواية التي نحن بصدد قراءتها “روائح مقاهي المكسيك”، تنتمي إلى هذا النوع الروائي الجديد، حيث يجد القارئ نفسه أمام كون روائي يعج بالنماذج البشرية ذات المرجعيات الفكرية المختلفة، التي تشترك في انتمائها للهامش هناك حيث الفقر والجوع وانعدام القيم. ومن بين هذه النماذج البشرية وقع اختيارنا على نموذج المرأة والتي سنحاول من خلال هاته القراءة الوقوف على بعض صورها.
تتجلى لنا صورة المرأة في هذه الرواية من خلال وجهة نظر بطل الرواية والسارد الرئيسي فيها “بوقال”، والتي نكتشف على مدار الرواية أنها صور جد سلبية، تعكس ضمنيا تصور الوعي الجمعي الذكوري داخل الأوساط المهمشة، والصور النمطية التي تشكلها حول المرأة، حيث ارتبطت المرأة في الذاكرة والمتخيل الجمعي لدى الطبقات الشعبية بالمكر والخداع والخيانة، وهو ما نجده ممثلا في الحكايات الشعبية مثل مؤلف ألف ليلة وليلة حيث تتأسس أغلبية القصص على الخيانات المتكررة للنساء، ومن أشهرها القصة الإطار قصة “الملك شهريار والملكة شهرزاد” والتي تتكرر فيها الخيانة عدة مرات ولكن ما يميز هذه الخيانات المتكررة ختمها بطابع نون النسوة فنجد خيانة زوجة الملك شاه زمان تم خيانة زوجة الملك شهريار فخيانة الفتاة للجني، وغيرها من الحكايات التي عملت على ترسيخ تلك الصور النمطية حول المرأة باعتبارها كائنا شريرا بالفطرة.
فتحضر المرأة في رواية “روايح مقاهي المكسيك” كرمز للمكر والخيانة، اذ تعج الرواية بالعديد من النماذج السلبية للنساء فنذكر مثلا زوجتا الأب، الأم البيولوجية، العايدية، الخالدية وزوجة القروي الخائنة التي حكى لنا السارد حكايتها على لسان زوجها. وهي صور تتناص مع العديد من نماذج حكايات ألف ليلة وليلة إذ تشبه شخصية العايدية عجائز الليالي الماكرات، كما تشبه الخالدية وزوجة القروي زوجة شهريار، أما “بوقال” بطل الرواية فيشبه إلى حد كبير شخصية شهريار فكلاهما ذاق مرارة الخيانة وفقد ثقته بالنساء.
الأم البيولوجية
فكانت أول خيانة في حياة” بوقال ” هي خيانة الأم، التي خانت ميثاق الأمومة بتخليها عنه، فالأم التي تعتبر من أسمى المخلوقات على الوجود حيث كرمها الله بنعمة الأمومة إذ تعتبر مصدرا للآمان والحنان، نجدها ممثلة في الرواية بأبشع صورها بل وأكثرها شذوذا، فبدل أن تكون مصدر أمان للبطل تخلت عنه منذ ولادته لأسباب مجهولة يرجها هو إلى خيانة حتمية، فيصورها السارد أنانية، منعدمة المشاعر والأخلاق، تعود للبحث عنه بعد مرور عدة سنوات دون أي اكتراث لما عاناه في غيابها، عندما عاش اليتم في حياتها إذ يقول السارد في وصفها “هاجرت متسللة في جنح الظلام، تعد خطواتها، رشيقة خفيفة غادرة، كالخونة واللصوص، متلبسة بالجرم الأكبر، إلى وجهة غير معلومة. أدركت بحصافة حدسي أنها فرت مع عاشق لها حتى قبل أن يجف دم نفاسها وتركتني لوحدي” ص140 تم يردف في الوصف” أنفها دقيق كمواعيد الخونة واللصوص. ومما زاد في اشمئزازي منها ابتسامة افترت عن ثغر فضيع وانكشفت تلك الأسنان المذهبة الملتهبة لمعانا في فمها حتى اللهاة” ص 141. لم يعرف “بوراس” حنان الأم والأب معا حيث غاب الاثنان عن مشاهد حياته فالأب بدوره لم يعره أي اهتمام مما اضطره للهرب من المنزل والعيش في المقهى، إلا أنه قرر صب جام غضبه على أمه ومحاكمتها برغم من جهله بظروف هروبها فقد قرر أنها خيانة، في حين اختار الصمت اتجاه والده وعدم محاسبته مع أن الأم عادت للبحث عنه بينما لم يقم والده بذلك.
العايدية
هي زوجة الشيبة العاصية وصاحبة المقهى الذي يشتغل فيه بوقال، وقد خصص لها السارد صفحتان ونصف من أجل وصفها، وقد قدمها للقراء بأبشع الصور بل وأكثرها تقزيزا إذ يقول في وصفها:” العايدية زوجة الشيبة العاصية، صاحب المقهى، كثلة لحمية متراصة البنيان، تخطت عتبة القنطار وما يزيد… سمينة، غليظة….. تحتاج إلى مقعدين في الحافلة… تقتعد ما يشبه الوسادة أو الصرة، تحشوها تحت وركها العريض، لا أقول إنها متسخة، ولكن إذا عصرتها في فم كلب يتقيأ قبل أن يصاب بالسعار….كالبقرة تغمض عينا كئيبة غائرة، مبللة، خامجة تبول على الدوام، وتفتح أخرى، منتوفة الأهداب، وسط حفنة من التجاعيد” ص47
ومع أن شخصية “العايدية” في الرواية لم تظهر أي عداء اتجاه البطل “بوقال”، بالعكس من ذلك كانت تختاره كرفيق دائم في أسفارها وكاتم لأسرارها، إلا أنها لم تسلم من أوصافه القاسية فقد صورها السارد عجوزا متصابية، لعوب ، ومتحايلة، ورغم أمراضها المتعددة كعسر التبول والروماتيزم والسمنة وغيرها لم يعفيها سجلها المرضي هذا من تهمة الخيانة إذ تتعدد المقاطع السردية التي تقذف فيها العايدية بالخيانة نذكر منها :” تسببت في إفساد قبيلة من الشباب في عمر أحفادها، اعتادت أن توزع عليهم ثروتها مقابل سويعات اللذة، منساقة وراء نزواتها الغرامية الصبيانية التي لاتنتهي” ونجد أيضا في مقطع آخر ” وما زيارتها المتكررة للضريح وفترات الاستراحة التي استمرأتها هناك، ماهي في الحقيقة إلا زيارات معدة سلفا ومع سبق الإسرار والتأكيد لتلبي غرائزها الشبقية هناك“ص115 لم يكتفي السارد بكل هذه التهم، بل وقد اختار لها نهاية بئيسة ومصيرا مجهولا، اذ أصيبت فجأة بالجنون وعلى إثر ذلك تم إيداعها في أحد الأضرحة الذي دفنت فيه حية وانقطعت أخبارها وأمست طي النسيان.
الخالدية
ينتقل السارد ليصور لنا نموذجا أخرا للمرأة، إنها “الخالدية” ابنة العايدية وحب بوقال الوحيد تم تزويجها من رجل عجوز بإحدى القرى لكي يتستر على جريمة اغتصابها من قبل زوج أمها الشيبة العاصية. يصورها السارد امرأة فاتنة الجمال لكنها شيطانة مخادعة تتقن فن الغواية في مقابل “بوقال” الذي ينساق رغما عنه وراء نزواتها بكل طواعية، اذ يقول “ تتفحصني بنظراتها التي أضحت مع مرور الوقت شهوانية وقحة…. وتتحرك بتكاسل في منتهى التهتك والتبرج” ص 85 يمعن السارد في رسم صورة المرأة اللعوب، المتعطشة للمتعة الجسدية والمستعدة للخيانة الزوجية، فينقل لنا السارد “بوقال” مدى جرأة الخالدية وإلحاحها في إغوائه في مقابل استسلامه لها اذ يقول ” رغم ما ابديته من استعصام وجلد وصبر، بدأ وقاري يتلاشى رويدا رويدا“ص 87 فبوقال مثل أغلب الرجال الشرقيين موقفه من حب المرأة ملتبس فلقد أحب “الخالدية” بجميع جوارحه إذ يقول في هذا المقطع السردي:” حينما سددت لي بطرف عينها غمزة غادرة لم تكن في الحسبان. صعقة كهربائية، رف لها قلبي وتلاحقت ضرباته واندلع قرع الطبول بعنف في صدري، ليصعد لصدغي جارفا مدمرا” وفي نفس الوقت يعلن تمنعه عنها فموقفه اتجاهها متأرجح بين الانجذاب الذكوري الجنسي للمرأة والنفور النفسي منها، بين الإغراء الحسي وبين العدائية الذكورية ذات الجذر الثقافي، وهو ما يعكس ضمنيا خوفا من المرأة باعتبارها حليفة للشيطان في المجتمعات الذكورية فكلهما أي المرأة والشيطان يتقنان فن الغواية، وهو ما يؤكده المقطع السردي التالي على لسان السارد “بوقال” :” عندما التقت العين بالعين رقص قلبي، وانهمر شلال البهاء، أيقنت أن مثل هذا المخلوق الوديع كان بإمكانه أن يسرق كل تفاح الجنة“ص86 إن القارئ النموذجي (بحسب تعبير امبرتو إيكو ) يلمس في هذا المقطع قصد “بوقال” اذ يشير فيه إلى الخطيئة الأولى التي تُحمل بعض الديانات وزرها حواء وجميع بنات جنسها من بعدها وتعفي منها أدم وجميع أبناء جنسه. وهي أساس الصورة النمطية السلبية المتجذرة في اللاوعي الجمعي مند أقدم العصور، ففي بعض الديانات القديمة كاليهودية والمسيحية تعتبر المرأة المسؤولة عن الخطيئة الأولى للبشرية وبالتالي فهي أصل الشرور في العالم، لأنها بحسب الرواية الموجودة في الكتب المقدسة كالعهد القديم والجديد كانت سببا في خورج آدم من الجنة وذلك ما تأكده الآية التوراتية من سفر التكوين “وكانت الحيّةُ أَحْيَلَ جميع الحيوانات البريّة التي عملها الربّ الإله، فقالت للمرأة: أحقًّا قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحيّة: من ثمر شجر الجنة نأكل. وأمّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تَمَسّاه؛ لئلا تموتا. فقالت الحيّة للمرأة لن تموتا. بل الله عالم أنه يوم تأكلا منه تتفتح أعينكما وتكونان كالله عَارِفَيْنِ للخير والشر… فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل…. فنادى الرب الإله آدم فقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت؛ لأنني عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. … فقال الربّ الإله للحيّة: لأنّكِ فعلت هذا ملعونة أنتِ من جميع البهائم، ومن جميع وُحوش البريّة… وقال للمرأة: تكثيرًا أُكَثِّرُ أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك” (سفر التكوين الاصحاح الثالث مقطع 1-20-).
وما يفهم من هذا النص التوراتي أن أدم لم يعترف بخطيئته وإنما جعل اللوم على حواء بغوايته للأكل من الشجرة لمحرمة بقوله المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. وهو نفس ما فعله السارد “بوقال” من خلال تطويعه اللغة لتساعده في تحرير صك إدانة الخالدية وتبرئته من جرم الخيانة، فنجد جملا من قبيل:” استدرجتني بطريقة شيطانية في غفلة مني / تمادت في إغواءاتها وانخرطت في لعبة العايدية/ دبرت لي مكيدة يقتلني فيها العجوز“.
ما يبدو إذن أن الصور المُنمطة للمرأة التي نجدها في العديد من الثقافات الإنسانية، والتي تصورها كرمز للغواية والشرور، تعود أصولها لقصة الخطيئة الأولى للبشرية هي نفس وجهة النظر التي ينقلها لنا السارد “بوقال” من خلال السرد، عندما اتهم الخالدية وأمها العايدية بتهمة التآمر من أجل إيقاعه في الرذيلة، بينما لم يحمل نفسه أية مسؤولية البتة؛ وذلك راجع لكون الغواية في المتخيل الذكوري الشعبي فعل مؤنث بامتياز تتوارثه بنات حواء كحملٍ يشبه حِملَ الخطيئة الأولى.
وفي الختام يمكننا القول بأن رواية “روائح مقاهي المكسيك” قد نجحت في افساح المجال لأصوات الهامش من أجل التعبير عن أفكارها وايديولوجياتها ووجهات نظرها اتجاه الأشخاص والحياة، وهو ما حاولنا الوقوف على بعضه من خلال تحليلنا لصورة المرأة في الرواية من وجهة نظر السارد “بوقال”.
المصدر : https://www.doukkala24.com/?p=17398