شخصيات ذكرها التاريخ :”العلامة ابن حزم الأندلسي” 1/2 الحلقة 15

doukkala24
تقافة و فنون
28 أبريل 2021آخر تحديث : منذ 4 سنوات
شخصيات ذكرها التاريخ :”العلامة ابن حزم الأندلسي” 1/2 الحلقة 15

دكالة 24:عدنان حاد

– 15 –

أنجبت الأندلس طوال تاريخ الإسلام فيها الذي استمر لثمانية قرون عباقرة وعظماء في ميادين الشريعة والعلوم والآداب والفنون، فضلا عن السياسة والعسكرية، ودُعاة على درجة كبيرة من العفّة والصيانة.

وفي نهاية عصر الدولة الأموية في الأندلس، وفي سنوات ازدهارها الأخيرة واضطرابها أيضا، وفي بيت من بيوت الشرف والمكانة والسُّؤدد فيها، وُلد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم في عام 384هـ/994م، وهو واحد من الرجال الفطاحل في تاريخ الأندلس وعباقرة ميادينها الفكرية والفلسفية والدينية؛ ذلك الرجل الذي يبدو أنه جمع المتناقضات فصار رأسا للمذهب الظاهري، وفقيها مُتبحِّرا مقارنا في المذاهب الفقيهة كلها، وفيلسوفا متأملا، بل ورجل سياسة، إذ كان والده من الوزراء الكبار، وكان في الوقت ذاته ذا عاطفة جيّاشة، ونفس مُرهفة، وقلب يعرف للحب قدره!

لم يكذب الشاعر والصوفي الكبير ابن العريف الأندلسي حين قال: “لسانُ ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف صنوان”، وهو تشبيه نرى منه قوة لسان ابن حزم، وإفحامه للخصوم، وحجّته الحاضرة، وبيانه الباهر، وهو لسان كان سببا في إيقاع العداوة والبغضاء لدى منافسيه الذين ضعفوا أمامه، وأُلجئوا في نهاية المطاف لإحراق كُتبه بتُهم كاذبة جعلت الرجل يتجه إلى مزرعة آبائه وأجداده النائية في سنوات عمره الأخيرة معتكفا على العلم، ومستقبلا لطلبة العلم من أرجاء الأندلس!

لكن ابن حزم أيضا أهدى لنا لونا بديعا من ألوان الأدب العربي والأندلسي، تجلَّت فيه شجاعته وذوقه وذكرياته في مراحل الشباب والعشق، ذلك هو كتابه الأثير والشهير “طوق الحمامة في الألفة والأُلّاف”. فمَن هو ابن حزم؟ ولماذا ألَّف هذا الكتاب؟ وكيف تناول أبرز إخفاقاته في هذا الميدان الإنساني الراقي؟! ذلك ما سنراه تاليا.

عرفنا أن ابن حزم كان سليل أسرة ميسورة، إذ كان والده من وزراء الدولة الأموية في أيامها وسنينها الأخيرة في الأندلس، ومن هنا فقد نشأ ابن حزم في بيئة حفلت بالجواري والنساء، فهنّ اللواتي حفّظنه القرآن الكريم، وعلّمنه الأدب والشعر، فتجلّت هذه النشأة في نفسه، وهو يعترف لنساء القصور بهذا الفضل، قائلا: “لقد شاهدتُ النساء وعلمتُ من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري؛ لأني رُبيتُ في حجورهن، ونشأتُ بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالستُ الرجال إلا وأنا في حدّ الشباب، وهُنّ علّمنني القرآن، وروّينني كثيرا من الأشعار، ودرّبنني في الخطّ، ولم يكن كدّي وإعمال ذهني مذ أول فهمي، وأنا في سن الطفولة جدا، إلا تعرّف أسبابهن، والبحثُ عن أخبارهنّ، وتحصيل ذلك”[1].

إن هذه التنشئة بين نساء القصور من الحرائر والجواري التي عاشها ابن حزم حتى سنوات الشباب أثّرت في كيانه ومشاعره، وأدرك من خلالها قيمة المرأة في عالم الرجل بلا شك؛ قيمة ستتبدّى في قصص الحب العُذري التي عاشها بنفسه أو كان شاهدا عليها في قُرطبة عاصمة الخلافة الأموية الأندلسية أو في خارجها من مدن الأندلس الأخرى.

وستظهر هذه الحقائق حين أرسل إليه أحد أصدقائه من مدينة ألمرية، وكان هو يسكن في شاطبة آنذاك، في حدود عام 417هـ يطلبه أن يكتب شيئا في الحبّ والمحبين وهو في أواخر سن الشباب، ورغم تردده في الكتابة أولا، فإن قلمه انسال يرفع عنه ما كان يُخفيه من لوعة الحب وقصصه، وما يُضمره من مشاعر كانت تحتاج إلى تحريكها نحو العلن ومداد الأقلام.

أعظم القصص التي حكاها ابن حزم عن حبّه لجارية كانت في سِن السادسة عشرة، وكان يعشقها عشقا، لكنها لم تكن تُبادله الشعور نفسه، ويبدو أن هذا الصدّ والصدود قد جعل لهيب الحب والشوق يشتعل في كيانه ونفسه، تجلّى هذا في وصفه لتلك اللحظات حتى بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما أو أكثر على تلك الواقعة، يقول بأسلوب عذب رشيق مليء بالمعاني والحب:

“إني لأخبرُ عني أني ألفتُ في أيام صباي ألفة المحبة جارية نشأَت في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما، وكانت غاية في حُسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، بديعة البِشْر، مُسْبلة السِّتر، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، شديدة الحذر، نقية من العيوب، دائمة القُطوب، كثيرة الوقار، مستلذَّة النّفار، لا توجه الأراجي نحوها، ولا تقفُ المطامع عليها، ولا معرس للأمل لديها، فوجهها جالب كل القلوب، وحالها طارد من أمها… موقوفة على الجد في أمرها غير راغبة في اللهو، على أنها كانت تُحسن العود إحسانا جيدا، فجنحت إليها وأحببتها حبا مفرطا شديدا، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة، غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، بأبلغ السعي فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة”.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

error: Content is protected !!