دكالة 24:عدنان حاد
- – 12 –
في عصر الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) انفتحت الحضارة الإسلامية على باقي الحضارات المجاورة حين أنشأ هذا الخليفة مؤسسة “بيت الحكمة” الشهيرة التي كانت أحدث مؤسسة بحثية وعلمية آنذاك، أخذت فيها العلوم التجريبية والعقلية مثل الرياضيات والطب والكيمياء والصيدلة والعقاقير وحتى الفلسفة والتاريخ البيزنطي مكانتها من الترجمة والنقل.
لقد اتسع البحث في علم الرياضيات لا سيما في علم الجبر على يد العرب والمسلمين، وفي ذلك يقول غوستاف لوبون الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي الشهير:”عُزي إلى العرب اكتشافُ علم الجبر، ولكن أصوله كانت معروفة منذ زمن طويل، ومع ذلك فقد حوّل العربُ علمَ الجبر تحويلا تاما، وإليهم يرجع الفضل في تطبيقه على علم الهندسة”.
وينقل غوستاف لوبون في كتابه الماتع “حضارة العرب” عن العالم الفرنسي مسيو شال في كتابه “خلاصة تاريخ أصول الهندسة” قوله إنه “لم تؤثر تلك الثورة العلمية (العربية الإسلامية) المباركة التي أدّت إلى طرح تلك الطرق المركبة الثقيلة في الجيب وتمام الجيب في علماء القرون الحديثة إلا بعد مرور خمسمئة سنة، وذلك بدعوة ريجيو مونتانوس، وإن جَهَل تلك الثورة كوبرنيكُ الذي ظهر بعد نحو قرن”! والحقيقة أن الثورة العلمية التي أحدثها المسلمون في مشرق العالم الإسلامي ومغربه كان لها تأثيرها وصداها المدوّي في أوروبا لا سيما أثناء الحروب الصليبية وعقبها في القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الميلادي وما تلاه، بفضل اتساع التجارة بين شمال البحر المتوسط لا سيما في إيطاليا وإسبانيا وجنوبه في مصر والشام والجزائر والمغرب.
وفي أثناء تلك التفاعلات السياسية والعلمية والاقتصادية والعسكرية وُلِد ليوناردو فيبوناتشي البِيسي ليُخبِّئ له القدر مفاجأة ستُغيِّر من تاريخ العلاقات العلمية بين الإسلام والغرب، ويأخذ علم الرياضيات على يديه منحى ثوريا في تاريخ العالم وإلى يومنا هذا، فمَن هو فيبوناتشي؟ وأين وُلِد؟ وكيف نقل الأرقام العربية من الجغرافيا الإسلامية إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة في أثناء القرن الثاني عشر الميلادي؟ وما أثر ذلك في أوروبا والعالم؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.
في مدينة بيزا إحدى حواضر إقليم توسكانا الإيطالي القريب من البحر المتوسط، وفي عام 1180م/576هـ وُلِد ليوناردو في تلك المدينة التي كانت تعجّ بخليط من الأُمم الإيطالية والأتراك والليبيين والفرس والعرب، وكان ميناء الصيد الصغير التابع للمدينة قد كسب من صراعه مع المسلمين أثناء الحروب الصليبية لا سيما في سردينية وصقلية مركزا إستراتيجيا وثروة ضخمة، وأصبحت هذه المدينة حلقة الاتصال بين تجارة الشرق والغرب، واستطاعت بالسبل الدبلوماسية والتجارية أن تقيم فنادق تجارية في أهم مدن البحر المتوسط وسواحله من القسطنطينية والإسكندرية وحتى بجاية الجزائرية وسبتة المغربية.
ومن هنا، عَمِل والد ليوناردو رئيسا للمركز التجاري لبيزا في مدينة بُجاية على ساحل البحر المتوسط الجنوبي في الجزائر، وتُخبرنا آنا ماري شيمل في كتابها المنصف “شمس العرب تسطع على الغرب” أن “كل ما ذكره ليوناردو في كُتبه هو اسم والده “Bonaccio” أي الطيب، وقدّم ليوناردو نفسه فيما بعد باسم “Leonardus Filis Bonacci” (أي ليوناردو ابن الطيب)، ثم عُرِف ليوناردو فيما بعد بالاسم الذي عرفه به المؤرخون “Leonardus Fibonacci””.
عاش ليوناردو سنوات الطفولة مع والده في مدينة بجاية، وبالمقارنة مع سنوات ولادته وطفولته سنلاحظ أنه عاش في ظل العصر الذهبي لدولة الموحّدين في شمال أفريقيا والأندلس في الربع الأخير من القرن السادس الهجري، في ذروة صراع الحروب الصليبية، وكان من الطبيعي لإعداد التاجر البيزني ابنه ليوناردو ليكون تاجرا مثله أن يعلّمه مبادئ الحساب والرياضيات، وسلّمه إلى معلّم عربي يُعلّمه هذه المهارة، وقد أُولع ليوناردو بالأرقام العربية، وكان ذكيا محبا لهذا العلم، ولم يلبث أن تعلّم الضرب والقسمة وأجادهما، وعلّمه مُدرِّسه “سيدي عمر” كما يقول حسابَ الكسور على أحدث الطرق التي كانت تُدرَّس في الجامعات العريقة في بغداد والقاهرة والموصل آنذاك، كما تعلّم الجذور وحلّ المعادلات الرياضية التي كان المسلمون قد وصلوا إليها في مؤلفات ابن سينا والبيروني والخوارزمي وغيرهم.
طاف ليوناردو البلدان الإسلامية في المشرق والمغرب، في سبتة وتونس والإسكندرية والقاهرة ودمشق، ودرس كل ما حوته مخطوطات كبار الرياضيين من الإغريق والهنود والعرب، وألّف ليوناردو وهو في الثالثة والعشرين من عمره عام 1202م من عمره كتابه الشهير “Liber Abaci” أي “كتاب العدّ” أو “العدّاد” باللغة اللاتينية ليصبح ثورة في تاريخ علم الحساب والرياضيات في القارة الأوروبية في القرن الثالث عشر الميلادي.
المصدر : https://www.doukkala24.com/?p=11710